الإسلام والطب يحاربان الضوضاء ورفع الأصوات

قال تعالى : (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً) (سورة الإسراء)

ينشأ الصوت عن حركة اهتزازية على درجات مختلفة (1) . والآذن تسمع الأصوات التي يكون مقدار اهتزازاتها ما بين 16 ـ 20 ألف هزة /ثا ، وما زاد عن ذلك لا يسمع ، لأنه يحدث اضطراباً في الأذن وشعوراً مزعجاً غامضاً. ويعرف العالم ” زيلر” الضوضاء بأنها الأصوات التي تحدث اضطراباً . ويمكن القول بأن الأصوات العالية تحدث اضطراباً أكثر من المنخفضة ، والأصوات الحادة أكثر خطورة من الغليظة، وكذا الأصوات غير المنسقة أكثر من الأصوات جيدة التلحين .

ولا شك بأن الضوضاء هي إحدى أسباب التوتر النفسي والقلق في المجتمعات (2) خاصة بعد انتشار الراديو والتلفيزيون ومكبرات الصوت ووسائط النقل وغيرها من وسائل الضجة . لكن الضوضاء (1) لم تعد مشكلة نفسية فقط، بل أصبحت مشكلة جسمانية فهي تؤثر على أعضاء السمع وعلى أعضاء الجسم مجتمعة .

ففي بحث نشرته المجلة الطبية العربية (3) قسمت الأضرار الناجمة عن الضجيج إلى:

أولاً : أضرار لها علاقة بالسمع: منها ضعف سمع عصبي مؤقت تختلف درجته حسب نوع الضجيج وشدته ومدة التعرض له يرافقه طنين في الأذن ومنها ضعف سمع عصبي دائم يحدث نتيجة التعرض المديد للأصوات العالية ، وقد يحدث انثقاب غشاء الطبل وتحطيم عظيمات السمع نتيجة التعرض للإنفجارات  المفاجئة .

ثانياً : آثار ليس لها علاقة بالسمع: منها الانزعاج المفرط من الضجيج والقلق والإرهاق واضطرابات نفسية وسلوكية منها العصبية المفرطة وعدم الاستقرار والإحباط والاكتئاب وغيرها .

وقد يصاب ببعض الاضطرابات القلبية الوعائية كخناق الصدر وارتفاع الضغط ولعل أهم نتائج تراجع الإنتاج والتهرب من العمل.  وبرهن د. هيلدنج (1)أن سبب الصمم يرجع إلى تأثير الأصوات العالية على عضو كورتي الموجود في الأذن الباطنية وأن التعرض المديد لبضع ساعات كل يوم يؤدي إلى استحالة في بعض أعضاء الأذن الباطنية. وتؤثر الضوضاء على مختلف مراكز المخ ووظائفه وبالتالي يمتد تأثيرها إلى العضوية كلها .

يقول د. أحمد شوقي الفنجري(2) : ” ومن أخطر الأمور في حياة الإنسان ألا يأخذ حظه من الراحة والنوم بسبب الضجيج ، فهو أحد عوامل الإجهاد الذهني والعصبي  وأحد معوقات الإنتاج . والضوضاء من أهم أسباب انتشار الأمراض النفسية ـ العصبية ، وأكثر الناس تأثراً هم أصحاب المهن الثقافية والفنية ، وكلما ثقل رأس الإنسان بالعلم  كان أكثر حاجة من غيره إلى الهدوء والراحة حتى ينتج لمجتمعه من علمه وفكره .ويعلم الرياضيون أيضاً (1) أن تناسق حركات الجسم يستلزم قدراً كبيراً من التركيز و لا يتسنى لهم الحصول عليه ضمن أجواء الضجيج .

وينقل د. سلطان أن الأبحاث الغريزية أثبتت أن التعرض المديد للضجيج يسبب ازدياداً في عملية الاستقلاب والهدم وارتفاعاً في الضغط وازدياداً في التوتر العضلي ، ولها تأثير سيئ على رجولة الرجل وأنوثة المرأة ، ومجموع هذه الاضطرابات يدل على أضرار تلحق الجهاز العصبي اللاإرادي بشكل حاد نتيجة الضجيج .

ومن أجل درء الخطر الناجم عن الضجيج (2) خصصت هيئة الأمم أسبوعاً في العالم كله لمحاربة الضوضاء وجعلت شعارها في ذلك الأسبوع “ الهدوء ذوق وأخلاق والضجة جهل وتخلف ” يمتنع فيه عن استعمال الزمور العالي ورفع صوت المسجلات  والراديو وسواها .

وتعاليم الإسلام الحنيف التي جاءت لسعادة البشر في دنياهم وآخرتهم جاءت لبناء حياة رغيدة ومجتمع هادئ لا يعرف الضوضاء -عكس ما يفعله المسلمون اليوم في كل مفاصل الحياة -(4) وينتهي عن الصخب واللغو  . وقد وصف الله سبحانه  في كتابه العزيز ” عباد الرحمن ” بمشيتهم الهادئة بلا استكبار ، يتعاملون بالرحمة  ولا يؤذون الناس بضجيجهم ورفع أصواتهم . قال تعالى : (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا) سورة الفرقان

والمجتمع الفاضل الذي يدعو إليه الإسلام لا ترتفع فيه الأصوات العالية دون مبرر والتي توتر الأعصاب وقد جاء الأمر القرآني أن يلتزم المسلم بالسكينة والوقار في مشيته   ولايصخب رافعا صوته دون حاجة. قال تعالى:” واقصد في مشيك  واغضض من صوتك إن أنكر الأصوات لصوت الحمير “.. فلا مبرر لرفع الصوت أكثر مما يحتاج إليه السامع,هذه هي القاعدة الشرعية فمن التقوى خفض الصوت في المجلس. قال تعالى :“إن الذين يغضون  أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى ” وما كان مطلوبا عند رسول الله ص يكون مطلوبا أمام كبير القوم من عالم أوأب وغيره, ومن ثم يعتاد المسلم  فيكون خفض الصوت  من سماته وأخلاقه .” .

 وكذا عدم إثارة الصخب والضجيج . وقد عاب القرآن على بعض الأعراب مناداتهم رسول الله ص من وراء الجدار وقلة ذوقهم في رفع أصواتهم . قال تعالى : (إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون)  الحجرات .

ولقد نهى الشارع الحكيم عن الضجة والصخب ورفع الصوت في كل أنواع العبادات في مجتمع الإسلام . وعندما أراد رسول الله ص اختيار طريقة لتبليغ الناس دخول وقت الصلاة (2) استشار أصحابه في ذلك ورفض اقتراحات بعضهم باستعمال الناقوس أو الطبول أو الأجراس ، واختار الأذان بصوت الإنسان لأنه أدعى إلى الهدوء والسكينة والبعد عن الصخب ، وطلب تلقينه بلالاً لأدائه لأنه أندى صوتاً ! ألا ما أعظمك من نبي حكيم يا خاتم الأنبياء…

وعند أداء المسلم لصلاته أمره الشارع ألا يرفع صوته بأكثر من المطلوب وفي حد متوسط مقبول . قال تعالى :( ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلاً ) .

وكره النبي ص إذ سمع جلبة خارج المسجد فقال :ما شأنكم قالوا استعجلنا إلى الصلاة . فقال : لا تفعلوا ، إذا أتيتم الصلاة فعليكم بالسكينة ، فما أدركتم فصلوا وما سبقكم فأتموا ” رواه البخاري .

والهدي النبوي في الدعاء واضح في النهي عن رفع الصوت أكثر من حاجة المستمعين لما روي عن أبي موسى الأشعري  عن النبي ص : “فإنكم لا تدعون أصماً ولا غائباً ” رواه البخاري ومسلم .

كما نهى النبي ص عن رفع الصوت أثناء تلاوة القرآن في المساجد لئلا يؤثر بعضهم على قراءة البعض الآخر ، إذ لا يمكن أن ينعم المصلي بالطمأنينة والخشوع وسط أجواء صاخبة . فقد روي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ، أن النبي ص قال : ” إن أحدكم إذا قام إلى الصلاة فإنه يناجي ربه فليعلم أحدكم ما يناجي ربه ولا يجهر بعضكم على بعض في الصلاة ” أخرجه الطبراني وأحمد في مسنده ورواه البغوي بلفظ إذا كان أحدكم في صلاته فإنه يناجي ربه فلينظر أحدكم ما يقول في صلاته ولا ترفعوا أصواتكم فتؤذوا المؤمنين ” .

هذه وصايا ديننا الحنيف ، دين الحياة الهادئة البعيدة عن الصخب و الضجيج . وأما ما يفعله جهلاء المسلمين من رفع مكبرات الصوت في المآذن والمساجد والحفلات والمآتم إلى أكبر مدىً ، سواءً في قراءة القرآن أو غيره ، فليس من البر أو التقوى في شيء ، بل أنزل القرآن العظيم ليقرأ بهدوء وطمأنينة وتدبر ليفهم وليطبق .

وإذا كان الإسلام ينهى عن إحداث الضوضاء في عباداته ، فما بالك بهؤلاء الذين يحدثون الضجة بغير هدف سوى التلذذ والتمتع بإيذاء الناس بصراخهم أو إطلاق زمور سياراتهم ، أو رفع مكبرات الصوت لمذياعهم أو آلات التسجيل وسواها وإزعاج جيرانهم وإجبارهم على سماع ما لا يريدون ، كل هذا تعدٍّ على الحرية الشخصية التي احترمها الإسلام وأقرتها الشرائع الدولية ، وخروج على تعاليم الإسلام ورسالة المآذن والمساجد في التبليغ والدعوة إلى الله بالكلمة الطيبة .

ثم ألا يعلم هؤلاء الذين يحدثون الضجيج ، كم من مريض في البيوت يحتاج إلى الراحة والنوم ، أو شيخ مسن مضطرب في نومه ، أو من طالب علم يحتاج إلى الدراسة والمذاكرة . إن مثل هذه الضوضاء ورفع أصوات المكبرات لا تتنافى فقط مع الذوق السليم والإحساس بالمسؤولية ، بل هي ضد الدين والمبادئ والأخلاق (2) علاوة على إحداثها للعديد من الآفات والعاهات الصحية في المجتمع .

مراجع البحث

1-        د.محمد خالد سلطان : “الطب والشريعة” رسالة جامعية دمشق 1983.

2-         د.أحمد شوقي الفنجري: “الطب الوقائي في الإسلام” الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1985.

3-         د.محمد المصري وآخرون : مقالة “مخاطر التعرض للضجيج والأصوات العالية ” المجلة الطبية العربية دمشق ع 137 كانون1 ، 1997.

4-         الصيدلي عمر محمود عبد الله : “الطب الوقائي في الإسلام” ، الدوحة 1990.

About drnizardaker

دكتور نزار الدقر
هذا المنشور نشر في Uncategorized وكلماته الدلالية , . حفظ الرابط الثابت.

اكتب تعليقاً